سورة الإسراء - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)}
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح}
الاعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو متكيء على عسيب فمرَّ بقوم من اليهود، فقال بعضهم: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لاتسألوه، فقام متكأ على العسيب، قال عبد الله، وأنا خلفه فظنيت أنه يوحي إليه فقال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً}.
فقال بعضهم لبعض: قلنا لكم لا تسألوه، وفي غير الحديث عن عبد الله، قالوا: فكذلك نجد مثله إن الروح من أمر الله تعالى.
وقال ابن عبّاس: قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا ما الروح وكيف يعذب الروح في الجسد ولم يكن نزل فيهم شيء؟ فلم يجبهم فأتاه جبرئيل عليه السلام بهذه الآية.
ويروى أن اليهود إجتمعوا فقالوا لقريش حين سألوهم عن شأن محمّد وحاله سألوا محمداً عن الروح. وعن فتية فقدوا في الزمان الأوّل، وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها، فإن أجاب في ذلك كله فهو بنبي وإن لم يجب من ذلك كله فليس بنبي، وإن أجاب في بعض ذلك وأمسك عن البعض فهو نبي فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنها فأنزل الله عزّ وجلّ فيما سألوه عن الفتية قوله: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم} [الكهف: 9] إلى آخر القصة.
وأنزل عن الجواب الذي بلغ شرق الأرض وغربها {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين} [الكهف: 83] إلى آخر القصة.
وأنزل في الروح قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح} الآية.
واختلفوا في هذا الروح المسؤل عنه ماهو: فقال الحسن وقتادة: هو جبرئيل.
قال قتادة: وكان ابن عبّاس يكتمه.
وروى أبو الميسرة ممن حدثه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: في قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح} الآية، قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة، يسبح الله عزّ وجلّ بتلك اللغات كلها، يخلق من كل تسبيحة ملك يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة.
ابن عبّاس: الروح خلق من خلق الله صورهم على صور بني آدم، وما نزل من السماء ملك إلاّ ومعه واحد من الروح.
أبو صالح: الروح كهيئة الأنسان وليسوا بناس.
مجاهد: الروح على صورة بني آدم لهم أيد وأرجل ورؤوس يأكلون الطعام وليسوا بملائكة.
سعيد بن جبير: لم يخلق الله خلقاً أعظم من الروح غير العرش ولو شاء أن بلغ السماوات السبع والأرضين السبع ومن فيها بلقمة واحدة لفعل صورة، خلقه على صورة الملائكة وصورة وجهه على صورة وجه الآدميين، فيقوم يوم القيامة وهو ممن يشفع لأهل التوحيد لولا أن سندس الملائكة ستراً من نور لاحترق أهل السماوات من نوره.
وقال قوم: هو الروح المركب في الخلق الذي يفقده فأوهم وبوجوده مقاديم.
وقال بعضهم: أراد بالروح القرآن وذلك أن المشركين قالوا: يا محمّد من أتاك بهذا القرآن، فأنزل الله تعالى بهذه الآية وبيّن أنه من عنده {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} يعني القرآن {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} ناصراً ينصرك ويرده عليك.
وقال الحسن: وكيلاً ناصراً يمنعك منا إذا أردناك.
{إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} يعني لكن لايشاء ربك رحمة من ذلك، {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً}.
هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وهو معصوب الرأس من وجع فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: «أيها الناس ما هذه الكتب التي يكتبون الكتاب غير كتاب الله يوشك أن يغضب الله لكتابه فلا يدع ورقاً إلاّ قليلاً إلاّ أخذ منه».
قالوا: يا رسول الله فكيف بالمؤمنين والمؤمنات يومئذ؟ قال: «من أراد الله به خيراً أبقى في قلبه لا إله إلاّ الله».
وروى شداد بن معقل عن عبد الله بن مسعود قال: إن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة والمصلين قوم لا دين لهم، وإن هذا القرآن تصبحون يوماً وما معكم منه شيء، فقال رجل: كيف يكون ذلك يا أبا عبد الرحمن وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا نعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة.
قال: يسري به في ليلة فيذهب بما في المصاحب ما في القلوب فتصبح الناس كالبهائم ثمّ قرأ عبد الله {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الآية.
وروى موسى بن عبيدة عن صفوان بن سليم عن ناجية بن عبد الله بن عتبة عن أبيه عن عبد الله قال: إكثروا الطواف بالبيت قبل أن يرفع وينسى الناس مكانه وأكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع؟ قالوا: هذه المصاحف يرفع فكيف بما في صدور الرجال.
قال: يسري عليه ليلاً يصبحون منه فقراء وينسون قول لا إله إلاّ الله فيتبعون في قول أهل الجاهلية وإشعارهم فذلك حين يقع عليهم القول.
وعن عبد الله بن عمرو قال: لا يقوم الساعة حتّى يرفع القرآن من حيث نزل له دوي كدوي النحل فيقول الله تعالى: ما بالك، فيقول: منك خرجت وإليك أعود اُتلى ولا يعمل فيَّ.
{قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} لايقدرون على ذلك.
قال السدي: لايأتون بمثله لأنه غير مخلوق ولو كان مخلوقاً لأتوا بمثله.
{وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} عوناً.
نزلت هذه الآية حين قال الكفار: لو شئنا لقلنا مثل هذا فأكذبهم الله تعالى {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ} إلى قوله: {إِلاَّ كُفُوراً} جحوداً.


{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)}
{وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً}.
عكرمة عن ابن عبّاس «أن عتبة وشيبة إبني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحرث وأبا البحتري بن هشام، والاسود بن المطلب وزمعة ابن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيهاً ومنبهاً إبني الحجاج إجتمعوا أو من إجتمع منهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة.
فقال بعضهم لبعض: إبعثوا إلى محمّد وكلموه وخاصموه حتّى تعذروا فيه، فبُعث إليه أن أشراف قومك قد إجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً وهو يظن بأنه بدا لهم في أمره بداءً، وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم.
فقالوا: يا محمّد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك وإنا والله لا نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعنّت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلاّ وقد جئته فيما بيننا وبينك، وإن كنت إنما جئت بهذا الحدث تطلب به مالاً حظنا لك من أموالنا حتّى تكون أكثرنا مالاً وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سوّدناك علينا، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك به رأي قد غلب عليك فكانوا يسمون من الجن من يأتي الأنسان بالخير والشر فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتّى نبرئك منه أو نعذر فيك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مابي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم أطلب به أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل عليَّ كتاباً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فأن تقبلوا مني ما جئتكم فهو حظكم في الدنيا والآخرة وأن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني وبينكم».
فقالوا: يا محمّد وإن كنت غير قابل منا ماعرضنا عليك فقد علمت إنه ليس من الناس أحد أضيق بلاداً ولا أقل مالاً ولا أشد عيشاً منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليُسيّر عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليجر فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن ممن يبعث لنا فيهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخاً صدوقاً فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله وأنه بعثك رسولاً كما تقول.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به فقد بلغتكم ما أرسلت به فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني وبينكم».
قالوا: فإن لم تفعل هذا فخذ لنفسك فسل ربك أن يبعث ملكاً يصدقك وسله فيجعل لك تيجان وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة ويغنيك بها عما نراك فإذن نراك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه.
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بُعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً».
قالوا: فأسقط السماء علينا كسفاً كما زعمت أن ربك إن شاء فعل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك».
قالوا: قد بلغنا إنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنّا والله لا نؤمن بالرحمن أبداً فقد أعذرنا إليك يا محمّد أما والله لا نتركك وما بلغت منا حتّى نهلكك أو تهلكنا.
وقال قائل منهم {أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً}.
فلما قالوا ذلك قام النبي صلى الله عليه وسلم وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ابن عبد الله بن عمرو بن محروم وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال له: يا محمّد عرض عليك ماعرضوا فلم تقبل منهم ثمّ سألوك لأنفسهم أمراً فليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك، ثمّ سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل، فوالله لا أومن بك أبداً حتّى تتخذ إلى السماء سلماً ثمّ ترقى فيه وأنا أنظر حتّى تأتيها وتأتي بنسخة مصورة معك ونفر من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت ألاّ أصدقك، ثمّ انصرف وإنصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبو جهل، حين قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يا معشر قريش إن محمّد قد أتى إلا ماترون مَنْ عيّب ديننا وشتم آلهتنا وسفّه أحلامنا وسبّ آباءنا فإني أعاهد الله لأجلسنّ له عند الحجر قدر ما أطيق حمله وإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه.
وإنصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزيناً لما فاته من متابعة قومه ولما رأى من مباعدتهم فأنزل الله تعالى {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ}.
قال أهل الكوفة: {تفجر} خفيفة بفتح التاء وضم الجيم، وإختاره أبو حاتم لأن الينبوع واحد.
قرأ الباقون بالتشديد على التفعيل، وإختاره أبو عبيد ولم يختلفوا في الثانية أنها مشددة لأجل الأنهار لأنها جمع، والتشديد يدل على التكثير من الأرض يعني أرض مكة ينبوعاً يعني عيوناً هو مفعول من نبع الماء.
{أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا} وسطها {تَفْجِيراً} رقيقاً {أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} قرأ أكثر قراء العراق: بسكون السين أي قطعة أجمع كسفه وهو جمع الكثير، مثل تمرة وتمر وسدرة وسدر.
تقول العرب: أعطني كسفة من هذا الثوب أي قطعة، ويقال: منه جاءنا ببريد كسف أي قطع خبز، وقيل: أراد جاثياً.
وفتح الباقون السين، وهو القطع أيضاً جمع القليل للكسفة.
{أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً}.
قال ابن عبّاس: كفيلاً. الضحاك: ضامناً. مقاتل: شهيداً.
مجاهد: جمع القبيلة أيّ بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة.
قتادة: عياناً. الفراء: هو من قول العرب: لقيت فلاناً قبلاً وقبلا أي معاينة.
{أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ} من ذهب وأصله الزينة.
مجاهد: كنت لا أدري ما الزخرف حتّى رأيته في قراءة ابن مسعود: بيت من ذهب.
{أَوْ ترقى} تصعد {فِي السمآء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ} أيّ من أجل رقيك صعودك {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ} أمرنا فيه بإتباعك {قُلْ} يا محمّد {سُبْحَانَ رَبِّي}.
وقرأ أهل مكة والشام: {قال سبحان ربي} يعني محمد صلى الله عليه وسلم {هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} وليس ما سألتم في طوق البشر ولا قدرة الرسل {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا} جهلاً منهم {أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} وإن الأُولى في محل النصب والثانية في محل الرفع وفي الآية إختصار فتأويلها هلاَّ بعث الله ملكاً رسولاً فأجابهم الله تعالى {قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ} مستوطنين مقيمين {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} لأن الملائكة إنما تبعث إلى الملائكة ويراهم الملائكة {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} إنه رسوله إليكم {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} إلى قوله: {أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ} دونهم {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ}.
شيبان عن قتادة عن أنس:إن رجلاً قال: يارسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «إن الذي أمشاه على رجاله قادر أن يمشيه على وجهه في النار».
وروى حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن أوس بن خالد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفاً مشاة وصنفاً ركبان وصنفاً يمشون على وجوههم».
قيل: يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم؟ قال: «إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك».
{عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} إن قيل: وكيف وصف الله عزّ وجلّ هؤلاء يأتيهم يوم القيامة عمي وصم وبكم، وقال تعالى: {وَرَءَا المجرمون النار} [الكهف: 53] فقال: {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان: 12] وقال: {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان: 13] والجواب عنه ماقال ابن عبّاس: عميّاً لايرون شيئاً يسرهم، بكماً لاينطقون بحجة، صماً لايسمعون شيئاً يسرهم.
وقال الحسن: هذا حين جاءتهم الملائكة وحين يساقون إلى الموقف عُمي العيون وزرقها سود الوجوه إلى أن يدخلوا النار.
مقاتل: هذا حين يقال لهم: إخسؤا فيها ولا تكلمون، فيصيرون بأجمعهم عمياً بكماً صماً لايرون ولا يسمعون ولا ينطقون بعد ذلك.
وقيل: عمياً لايبصرون الهدى، وبكماً لاينطقون بخير، وصماً لايسمعون الحق.
{مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ} قال ابن عبّاس: سكنت مجاهد: طفيت قتادة: لانت وضعفت.
{زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} وقوداً {ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} فأجابهم الله تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض} في عظمها وشدتها وكثرة أجزائها وقوتها {قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} في صغرهم وضعفهم نظيره قوله: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57] وقوله: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء} [النازعات: 27].
{وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً} أي وقتاً لعذابهم وهلاكهم {لاَّ رَيْبَ فِيهِ} إنه إليهم، وقيل: إن هذا جواب لقولهم أو يسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً، وقيل: هو يوم القيامة، وقيل: هو الموت الذي يعاينونه {فأبى الظالمون} الكافرون {إِلاَّ كُفُوراً} جحوداً {قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} أيّ أملاك ربي وأمواله وأراد بالرحمة هاهنا الرزق {إِذاً لأمْسَكْتُمْ} لبخلتم وحبستم {خَشْيَةَ الإنفاق} أي الفاقة، {وَكَانَ الإنسان قَتُوراً} أي بخيلاً ممسكاً ضيقاً.


{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)}
{وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} قال ابن عبّاس والضحاك: هي العصا واليد البيضاء والعقدة التي كانت بلسانه فحلها وفلق البحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم.
وقال: عكرمة: مطر، الوراق وقتادة ومجاهد والشعبي وعطاء: هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد والسنون ونقص من الثمرات.
وعن محمّد بن كعب القرظي قال: سألني عمر بن عبد العزيز عن الآيات التسع، فقلت: الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات وعصا موسى ويده والطمس والبحر.
فقال عمر: وأنا أعرف إن الطمس إحداهن.
قال محمّد بن كعب: إن رجل منهم كان مع أهله في فراشه وقد صار حجرين، وإن المرأة منهم لقائمة تختبز وقد صارت حجراً، وإن المرأة منهم لفي الحمام وإنها تصير حجراً.
فقال عمر: كيف يكون الفقه إلاّ هكذا ثمّ دعا بخريطة فيها أشياء مما كانت اُصيبت لعبد العزيز بن مروان بمصر حين كان عليها من بقايا آل فرعون فأخرج منها البيضة مشقوقة قطعاً وإنها لحجر وأخرج الجوزة مشقوقة وإنها لحجر وإخرج أشباه ذلك من الفواكة وإنها لحجارة، وأخرج دراهم ودنانير وفلوساً وإنها لحجارة. فعلى هذا القول يكون الآيات بمعنى الدلالات والمعجزات.
وقال بعضهم: هي بمعنى آيات الكتاب.
روى شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن صفوان بن غسان المرادي: إن يهودياً قال لصاحبه: تعالَ حتّى نسأل هذا النبي، فقال الآخر: لا تقل نبي لأنه لو سمع صارت له أربعة أعين فأتياه فسألاه عن هذه الآية {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}.
فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تشركوا بالله شيئاً ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلاّ بالحق ولا تزنوا ولا تأكلوا الربا ولا تسحروا ولا تمشوا بالبريء إلى سلطان ليقتله ولا تسرقوا ولا تقذفوا المحصنة ولا تولوا يوم الزحف، وعليكم خاصة في اليهود أن لا يتعدوا في السبت».
فقبّلوا يده ورجله وقالوا: نشهد أنّك نبي، قال: «فما يمنعكم أن تتبعوني؟» قالوا: إن داود دعا أن لا يزال في ذريته نبي، وإنَّا نخاف إن اتبعناك تقتلنا اليهود.
{فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ} موسى عليه السلام، وهو قراءة العامة، وروى حنظلة السِّدوسي عن شهر بن حوشب عن ابن عباس أنّه قرأ {فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ} على الخبر وقال: سأل موسى فرعون أن يخلِّي سبيل بني إسرائيل ويرسلهم معه.
فقال له فرعون: {إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً} أي قد سحروك، قاله الكلبي، وقال ابن عباس: مخدوعاً، وقال محمد بن جرير: يعطي علم السحر فهذه العجائب التي يفعلها من سحرك، وقال الفرّاء وأبو عبيد: ساحراً فوضع المفعول موضع الفاعل، كما يقال: هو مشؤوم وميمون أي شائم ويامن، وقيل: معناه: وإنّي لأعلمك يا موسى بشراً ذا سحر، أي له رئة.
قال موسى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ} قراءة العامة بفتح التاء خطاباً لفرعون، وقرأ الكسائي بضم التاء وهي قراءة علي.
روى شعبة عن أبي إسحاق عن رجل من مراد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قرأها: لقد علمتُ برفع التاء وقال: والله ما علم عدواً لله ولكن موسى هو الذي علم، قال: فبلّغت ابن عباس فقال: إنها لقد علمتُ تصديقاً لقوله: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ} [النمل: 14].
قال أبو عبيد: والمأخوذ عندنا نصب التاء، وهو أصح من المعنى الذي احتجِّ به ابن عباس، ولأن موسى عليه السلام لا يحتج بأن يقول علمت أنا وهو الرسول الداعي، ولو كان مع هذا كلِّه تصح تلك القراءة عن علي لكانت حجة، ولكنها ليست تثبت عنه إنما هي عن رجل مجهول، ولا نعلم أحداً من القرّاء تمسك بها غير الكسائي، والرجل المرادي الذي روى عنه أبو إسحاق هو كلثوم المرادي.
{مَآ أَنزَلَ هؤلاء} الآيات التسع {إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَآئِرَ} جمع بصيرة {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُوراً} قال ابن عباس: يعني ملعوناً، مجاهد: هالكاً، قتادة: مهلكاً.
وروى عيسى بن موسى عن عطية العوفي في قوله: {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُوراً} قال: مُبدّلا، ابن زيد: مخبولا، لا عقل لك، مقاتل: مغلوباً، ابن كيسان: بعيداً عن الخيرات، وروى سفيان بن حصين عن الحسن في قوله: {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُوراً} قال سلاحاً في القطيفة.
قال مجاهد: دخل موسى على فرعون في يوم شات وعليه قطيفة له فألقى موسى عصاه فرأى فرعون جانبي البيت بين فقميها، ففزع فرعون وأحدث في قطيفته.
وعن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: كنت قائماً على رأس المأمون وهو يناظر رجلا فسمعته يقول: يا مثبور، ثم أقبل عليَّ فقال: يا إبراهيم ما معنى: يا مثبور؟ قلت: لا أدري، فقال: حدّثني الرشيد قال: حدّثني أمير المؤمنين المنصور فسمعته يقول لرجل يا مثبور، فقلت له: يا أمير المؤمنين ما معنى مثبور؟ قال: قال ميمون بن مهران قال ابن عباس في قوله: {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُوراً} قال: ناقص العقل، قال الفرّاء: يعني مصروفاً ممنوعاً من الخير، والعرب تقول: ما ثبرك عن هذا الحق؟ أي ما منعك عنه وصرفك، وثبره الله يثبره ومثبره وهو لغتان، وقال ابن الزهري: الغليظ الأرب إذا بارى الشيطان في سنن الغي ومن مال ميله مثبور.
{فَأَرَادًَ} فرعون {أَن يَسْتَفِزَّهُم} يعني يخرجهم، أي بني إسرائيل {مِّنَ الأرض} أي أرض مصر والشام.
{فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعا} ونجّينا موسى وقومه {وَقُلْنَا} {مِن بَعْدِهِ} أي من بعد هلاك فرعون وقومه {لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض} يعني مصر والشام {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة} وهي الساعة {جِئْنَا بِكُمْ} من قبوركم إلى موقف القيامة {لَفِيفاً} مختلطين وقد التفَّ بعضكم ببعض لا تتعارفون ولا ينحاز أحدكم إلى قبيلته وحيّه، وهو من قول الجيوش إذا اختلطوا، وكل شيء اختلط بشيء تعطّف به والتفّ.
وقال مجاهد والضحاك: لفيفاً أي جميعاً، ووحّد اللفيف وهو خبر عن الجمع لأنه بمعنى المصدر كقول القائل: لففته لفاً ولفيفاً.
وقال الكلبي {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة} يعني مجيء عيسى ابن مريم من السماء جئنا بكم لفيفاً وقال البزّار: من ههنا وههنا، يقول: جميعاً.
وهذه القصة تعزية لنبيّنا صلى الله عليه وسلم وتقوية لقلبه، يقول الله تعالى: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن} [طه: 2] فكذبك كفار قومك من مكة كذلك آتيت موسى التوراة فكذبه فرعون وقومه، وكما أراد أهل مكة أن يستفزّوك منها، كذلك أراد فرعون أن يستفزّ موسى وبني إسرائيل من مصر، فأنجيناهم منهم وأظفرتهم عليهم، وكذلك أظفرتك على أعدائك، وأتمّ نعمتي عليك وعلى من اتّبعك نصرةً للدين ولو كره الكافرون، فأنجز الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده وله الحمد والمنّة.
{وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} يعني القرآن {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ} يا محمد {إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} أي وأنزلناه قرآناً ففصّلناه.
قرأ ابن عباس: فرّقناه بالتشديد وقال: لأنه لم ينزل مرة واحدة وانما أنزل نجوماً في عشرين سنة، وتصديقه قراءة أُبي بن كعب وقرآناً فرّقناه عليك، وقرأ الباقون بالتخفيف كقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4].
قال ابن عباس فصّلناه، قال الحسن: فرّق الله به بين الحق والباطل، وقرأ الآخرون: بيّناه.
{لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ} أي تؤدة ومهل في ثلاث وعشرين سنة {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً * قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا} أمر وعد وتهديد {إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ} أي من قبل نزول القرآن وخروج محمد صلى الله عليه وسلم وهم مؤمنو أهل الكتاب {إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ} يعني القرآن {يَخِرُّونَ} يسقطون {لِلأَذْقَانِ} على الأذقان وهي جمع الذقن وهو مجتمع اللحيين، قال ابن عباس أراد الوجوه {سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} قال مجاهد: هم ناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم {خَرُّواْ سُجَّداً} [السجدة: 15] ان كان أي وقد كان وعد ربنا لمفعولا {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ} نزول القرآن {خُشُوعاً} وخضوعاً وتواضعاً لربّهم.
قال عبد الأعلى التيمي: من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أنْ لا يكون أوتي علماً ينفعه، وتلا هذه الآية، نظيرها قوله: {إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم: 58].
{قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} الآية، قال ابن عباس: تهجّد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فجعل يقول في سجوده: يا الله يا رحمن يا رحيم، فقال المشركون: كان محمد يدعو إلهاً واحداً فهو الآن يدعوا إلهين اثنين الله والرحمن، والله ما نعرف الرحمن إلاّ رحمن اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب، فأنزل الله عزَّ وجلَّ هذه الآية.
قال ميمون بن مهران: كان النبي صلى الله عليه وسلم في أول ما أوحي إليه يكتب: باسمك اللهم حتى نزلت هذه الآية: {إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم} [النمل: 30] فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال مشركو العرب: هذا الرحيم نعرفه فما الرحمن؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
الضحاك: قال أهل الكتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنّك لتقلّ ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم، فأنزل الله تعالى: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} الآية.
{أَيّاً مَّا تَدْعُواْ} من هذين الاسمين ومن جميع أسمائه {فَلَهُ الأسمآء الحسنى} [.......] مجازه: أيّاً تدعوا، كقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون: 40] و{جُندٌ مَّا هُنَالِكَ} [ص: 11].
{وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} قال ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلّى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فاذا سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن ومن أنزله ومن تلا به كما حكاه القرآن: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} [فصلت: 26] ربما صفّروا ليغلّطوا النبي صلى الله عليه وسلم ويخلطوا عليه قراءته فأنزل الله تعالى {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} أي في الصلاة فيسمع المشركون فيؤذوك، ولا تخافت بها فلا يسمع أصحابك حتى يأخذوا عنك.
وقال سعيد: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجهر بقراءة القرآن في المسجد الحرام، فقالت قريش: لا تجهر بالقراءة فتؤذي آلهتنا فنهجو ربك، وقال مقاتل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي في دار أبي سفيان بن حرب عند الصفا، يجهر بقرائته فمرَّ به أبو جهل فقال: لا تفتر على الله، فجعل يخفت صوته، فقال أبو جهل للمشركين: ألا ترون ما فعلت بابن أبي كبشة، رددته عن قراءته فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى علقمة عن ابن سيرين في هذه الآية قال: كان أبو بكر رضي الله عنه يخافت بالقراءة في الصلاة ويقول: أناجي ربي، وقد علم بحاجتي، وكان عمر بن الخطاب يرفع صوته ويقول: أزجر الشيطان وأوقظ المنان، فأمر أبو بكر حين نزلت هذه الآية أن يرفع صوته شيئاً، وأمر عمر أن يخفض شيئاً.
وقالت عائشة رضي رضي الله عنه: نزلت هذه الآية في التشهد، كان الأعرابي يجهر فيقول: التحيات لله والصلوات ويرفع بها صوته، فنزلت هذه الآية، وقال الحسن: لا تراءِ بصلاتك في العلانية ولا تُسئها في السر.
الوالبي عن ابن عباس: لا تصلِّ مرائياً الناس، ولا تدعها مخافة الناس، ابن زيد: كان أهل الكتاب يخافتون في الصلاة، لم يجهر أحدهم بالحرف فيصيح ويصيح من وراءه، فنهاه الله أن يصيح كما يصيحون، وخافت كما يخافتون، والسبيل الذي بين ذلك الذي بيّن له جبرئيل في الصلاة.
وقال: علي والنخعي ومجاهد وابن مكحول: هي في الدعاء، وبه قال أشعث عن عطية عن ابن عباس، وقال عبد الله بن شدّاد: كان أعراب من بني تميم إذا سلّم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: اللهم ارزقنا، فقال لهم: أتجهرون؟ فأنزل الله هذه الآية.
ابن وهب عن عمرو بن الحرث عن دراج أبي السمح أن شيخاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّثه أن رسول الله قال في هذه الآية: «إنما أُنزلت في الدعاء، يقول: لا ترفع صوتك في الدعاء عند استغفارك واذكر ذنوبك فيسمع منك فتعبِّر بها وتخافت في الصوت والسكون»، ومنه يقال للميّت إذا برد خفت.
{وابتغ بَيْنَ ذلك} أي بين الجهر والإخفات {سَبِيلاً * وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} قال الحسين بن الفضل: يعني الذي عرّفني أنّه لم يتخذ ولداً {وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذل} قال مجاهد: لم يذل فيحتاج إلى ولي يتعزز به.
{وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} وعظّمه أن يكون له شريك أو ولي، قال عمر بن الخطاب ح: قول العبد:الله أكبر خير من الدنيا وما فيها.
وروى سهل بن معاذ عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آية العزّ {وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً}» إلى آخره.
وروى سفيان بن وكيع عن سفيان بن عيينة عن عبد الكريم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علّمه هذه الآية سبع مرات.
وروى محمد بن سلمة عن عبد الحميد بن واصل قال: من قرأ آخر بني إسرائيل كتب الله له من الأجر ملء السموات والأرض؛ لأن الله يقول فيمن زعم أن له ولدا {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً * أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً} [مريم: 90-91] قال: فيكتب له من الأجر على قدر ذلك.

1 | 2 | 3 | 4